فصل: قال ابن المثنى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من مجازات القرآن في السورة الكريمة:

.قال ابن المثنى:

سورة المزمّل (73):
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{يا أيُّها الْمُزّمِّلُ (1)} مجازها: المتزمّل، أدغمت التاء فثقّلت. المتزمّل عند العرب: الملتف بثيابه..
{إِنّ ناشِئة اللّيْلِ (6)} ساعات الليل وهى آناء الليل ناشئة بعد ناشئة..
{أشدُّ وطْئا (6)} عليك أشدّ ركوبا وكل شيء تعمله من سير أو صلاة بالليل فهو أشدّ وطئا عليك ويقال: وطئنا الليل وطئا فراشا أي مهادا لأنه يفترش الليل..
{وأقْومُ قِيلا (6)} أسمع قولا، إن الليل أسمع..
{سبْحا طوِيلا (7)} منقلبا طويلا..
{أنْكالا (12)} النكل القيد..
{طعاما ذا غُصّةٍ(13)} لا يسوغ في الحلق..
{كثِيبا مهِيلا (14)} من هلته تهيله..
{أخْذا وبِيلا (16)} متخذا شديدا، يقال: كلأ مستوبل أي لا يستمرأ وكذلك الطعام.
{السّماءُ مُنْفطِرٌ بِهِ (18)} قال أبو عمرو: السماء منفطرة، ألقى الهاء لأن مجازها السقف، تقول: هذا سماء البيت وقال قوم: قد تلقى العرب من المؤنث الهاءات استغناء، يقال: مهرة ضامر وامرأة طالق والمعنى متشقّقة..
{أدْنى} (20) أقرب.
{تجِدُوهُ عِنْد اللّهِ هُو خيْرا} (20) تجدوه عند اللّه خيرا. اهـ.

.قال الشريف الرضي:

ومن السورة التي يذكر فيها المزمل عليه الصلاة والسلام:

.[المزمل: الآيات 5- 7]:

{إِنّا سنُلْقِي عليْك قولا ثقِيلا (5) إِنّ ناشِئة اللّيْلِ هِي أشدُّ وطْئا وأقْومُ قِيلا (6) إِنّ لك فِي النّهارِ سبْحا طوِيلا (7)}.
قوله تعالى: {إِنّا سنُلْقِي عليْك قولا ثقِيلا} [5] وهذه استعارة. لأن القرآن كلام، وهو عرض من الأعراض. والثقل والخفة من صفات الأجسام، والمراد بها صفة القرآن بعظم القدر، ورجاحة الفضل، كما يقول القائل: فلان رصين رزين. وفلان راجح ركين. إذا أراد صفته بالفضل الراجح، والقدر الوازن.
وقوله سبحانه: {إِنّ ناشِئة اللّيْلِ هِي أشدُّ وطْئا وأقْومُ قِيلا [6]} وقرئ: {وطأ} بالقصر. وهذه استعارة.
والمراد بناشئة الليل هاهنا ما ينشأ فعله، أي يبتدأ به من عمل الليل، كالتهجد في أثنائه، والتلاوة في آنائه. ومعنى {أشدُّ وطْئا} في قول بعضهم، أي أشد مواطاة، وهو مصدر. يقال: واطاه، مواطاة، ووطاء. أي يواطئ فيها السمع القلب، واللسان العمل، لقلة الشواغل العارضة، واللوافت الصارفة، ولأن البال فيها أجمع، والقلب أفرغ، فالقراءة فيها أقوم، والصلاة أسلم.
ومن جعل وطاء هاهنا اسما لما يستوطى ويفترش، كالمهاد وما يجرى مجراه، فأنه ذهب إلى أن عمل الليل أوعث مقاما، وأصعب مراما. وعندهم أن كل ما ينشأ بالليل من قراءة، أو تهجد، أو طروق، أو ترحل أشقّ على فاعله، وأصعب على مستعمله، لأن الليل موحش هائل، ومخوف محاذر. فكل ما وقع فيه مما أومأنا إليه كان كالنسيب له، والشبيه به.
ومن قرأ {وطأ} بالقصر فالمعنى فيه قريب من المعنى الأول. والمراد أن قيام الليل أشد وطأ عليك أي أصعب وأشق، كما يقول القائل: هذا الأمر شديد الوطأة علىّ. إذا وصف بلوغه منه وصعوبته عليه ومع أن عمل الليل أشد كلفة ومشقة فهو أقوم صلاة وقراءة، للمعنى الذي قدمنا ذكره.
وقوله سبحانه: {إِنّ لك فِي النّهارِ سبْحا طوِيلا} [7] وهذه استعارة. والمراد بها المضطرب الواسع، والمجال الفاسح. وذلك مأخوذ من السباحة في الماء، وهى الاضطراب في غمراته، والتقلب في جهاته. فكأنه سبحانه قال: إن لك في النهار متصرفا ومتسعا، ومذهبا منفسحا، تقضى فيه أوطارك، وتبلغ آرابك.

.[المزمل: آية 17]:

{فكيْف تتّقُون إِنْ كفرْتُمْ يوْما يجْعلُ الْوِلْدان شِيبا (17)}.
وقوله سبحانه: {فكيْف تتّقُون إِنْ كفرْتُمْ يوْما يجْعلُ الْوِلْدان شِيبا} [17] وهذه استعارة. والمراد بها: أن الولدان الذين هم الأطفال لو جاز أن يشيبوا الرائع خطب، أو طارق كرب، لشابوا في ذلك اليوم لعظيم أهواله، وفظاعة أحواله. وذلك كقول القائل: قد لقيت من هذا الأمر ما تشيب منه النواصي- كناية عن فظيع ما لاقى، وعظيم ما قاسى. اهـ.

.فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

قال محمد الغزالي:
سورة المزمل:
في سورة الأنعام آية رسمت الإطار الذي يحدد سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}. إذا كانت حياة البعض حقا وباطلا وجدا وهزلا وراحة وتعبا، فإن هذا الإنسان الجليل قضى حياته كدحا موصولا وسبحا طويلا. ولم تكن مراحل تعبه استكمالا لأمجاد النبوة في بيئة محدودة، بل كانت تكوين جيل يغير مسار البشر إلى قيام الساعة، ويهيئ للحق منارا لا تطفئه العواصف الهوج! إن السنوات الستين التي قضاها محمد في الدنيا لم تكن لإصلاح عصر معين، بل كانت صونا لعقيدة التوحيد على امتداد الزمان والمكان، وإعدادا للرجال! الذين يحرسونها بعده إلى آخر الدهر. وفى أوائل إلماع إلى هذه الغاية لقد قيل للرسول {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا} لقد انتهى زمان النوم المشبع والإستجمام العميق {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا}. إنه قول ملئ بالتكاليف الشاقة والجهاد المضنى!! إنه إذا فرغ من قيام الليل استقبل كدح النهار في تبليغ الدعوة ومجاهدة الخصوم، ولا معين له إلا الله. فلينقطع إليه، وليستمد منه، وليتخذه وكيلا، وليصبر على أذاهم، فإن حسابهم المقبل شاق: {إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما}. ومتى يقع هذا؟ {يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا}! إن تصور الأرض ترتجف بنجدها ووفدها وبرها وبحرها كما يرتجف العاجز أمام هولى دهمه، تصور يثير الفزع والرهبة، ولكن الناس في خوض يلعبون. إن محمدا عليه الصلاة والسلام كان أخشى الناس لله، وأشدهم إحساسا بقرب لقائه. وكان الجيل الذي حف به يتأسى به ويحيا على غراره. فليس غريبا أن يقوم الليل مثله ويشد أزره في مكافحة الضلال الجاثم على صدر الدنيا، ولكن الله سبحانه رحمة منه بجمهور الأمة استبقى فريضة قيام الليل على نبيه خاصة. واكتفى من المؤمنين بما يقومون به من واجبات أثناء النهار {والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن}. وليس هذا الترك إجازة مفتوحة أو عطلة سائغة. كلا، إنه تقدير لأعمال أخرى {علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله}. والواقع أن الجهاد الاقتصادى والعسكرى لابد منهما لحراسة الأمة وأدائها لرسالتها. إن أعداء الحق يرقبوننا بجل، فإن وجدوا ثغرة نفذوا منها إلى صميمنا، وهنا الطامة التي تطيح بالحق وأهله. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة المزمل:
أقول: لا يخفى وجه اتصال أولها: (قُم الليل) بقوله في آخر تلك: (وأنّهُ لمّا قام عبد الله يدعوه) وبقوله (وأنّ المساجد لله). اهـ.

.تفسير الآيات (1- 5):

قوله تعالى: {يا أيُّها الْمُزّمِّلُ (1) قُمِ اللّيْل إِلّا قلِيلا (2) نِصْفهُ أوِ انْقُصْ مِنْهُ قلِيلا (3) أوْ زِدْ عليْهِ ورتِّلِ القرآن ترْتِيلا (4) إِنّا سنُلْقِي عليْك قولا ثقِيلا (5)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
(بسم الله) الكافي من توكل عليه في جميع الأحوال (الرحمن) الذي عم بنعمة الإيجاد والبيان المهدي والضال عليه في جميع الأحوال (الرحيم) الذي خص حزبه بالسداد يفي الأقوال والأفعال لإيصالهم إلى دار الكمال.
لما تقدم في آخر الجن من تعظيم الوحي وأن من تعظيمه حفظ المرسل به من جميع الآفات المفترة عن إبلاغه بما له سبحانه من إحاطة العلم والقدرة وندب نبيه الذي ارتقاه لرسالته والاطلاع على ما أراده من غيبه صلى الله عليه وسلم أول هذه إلى القيام بأعباء النبوة بالمناجاة بهذا الوحي في وقت الأنس والخلوة بالأحباب، والبسط والجلوة لمن دق الباب، للاعتلاء والمتاب، المهيئ لحمل أعباء الرسالة، والمقوي على أثقال المعالجة لأهل الضلالة، فقال معبرا بالأداة الصالحة للقرب والبعد المختصة بأنه لا يقال بعدها إلا الأمور التي هي في غاية العظمة، أشار إلى أنه صلى الله عليه وسلم يراد به غاية القرب بالأمور البعيدة عن تناول الخلق بكونها خوارق للعادات ونواقض للمألوفات المطردات، وأما التزمل فهو وإن كان من آلات ذلك إلا أنه من الأمور العادية، فهو دون ما يراد من التهيئة لذلك الاستعداد، وبالتزمل لكونه منافيا للقيام في الصلاة: {يا أيها المزمل} أي الذي أخفى شخصه وستر أمره وما أمرناه به- بما أشار إليه التزمل الذي مدلوله التلفف في الثوب على جميع البدن والاختفاء ولزوم مكان واحد، ولأنه يكون منطرحا على الأرض كما قال صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد- «زملوهم بثيابهم ودمائهم» مع الإشارة إلى الإخفاء أيضا بإدغام تاء التفعل، وربما أشار الإدغام إلى أن الستر بالثوب لم يعم جميع البدن، كما يأتي في المدثر على أن فيه مع ذلك إشارة إلى البشارة بالقوة على حمل أعباء ما يراد به، من قولهم: زمل الشيء- إذا رفعه وحمله، والازدمال: احتمال الشيء، وزملت الرجل على البعير وغيره- إذا حملته عليه، ومن زملت الدابة في عدوها- إذا نشطت، والزامل من حمر الوحش الذي كأنه يظلع من نشاطه، ورجل إزميل: شديد، والزاملة: بعير يستظهر به الرجل لحمل طعامه ومتاعه عليه، ويقال للرجل العالم بالأمر: هو ابن زوملتها.
وقال ابن عطاء: يا أيها المخفي ما تظهره عليه من آثار الخصوصية! هذا أوان كشفه، وقال عكرمة: يا أيها الذي حمل هذا الأمر، وقال السدي: أراد يا أيها النائم، وقال غيره: كان هذا في ابتداء الوحي بالنبوة، والمدثر في ابتداء الوحي بالرسالة، ثم خوطب بعد ذلك بالنبي والرسول: {قم} أي في خدمتنا بحمل أعباء نبوتنا والازدمال بالاجتهاد في الاحتمال، واترك التزمل فإنه مناف للقيام.
ولما كان الاجتهاد في الخدمة دالاّ على غاية المحبة، وكانت النية خيرا من العمل، وكان الإنسان مجبولا على الضعف، وكان سبحانه لطيفا بهذه الأمة تشريفا لإمامها صلى الله عليه وسلم، رضى منا سبحانه بصدق التوجه إلى العمل وجعل أجورنا أكثر من أعمالنا، فجعل إحياء البعض إحياء للكل، فأطلق اسم الكل وأراد البعض فقال: {الليل} أي الذي هو وقت الخلوة والخفية والستر، فصل لنا في كل ليلة من هذا الجنس وقف بين يدينا بالمناجاة والأنس بما أنزلنا عليك من كلامنا فإنا نريد إظهارك وإعلاء قدرك في البر والبحر والسر والجهر، وقيام الليل في الشرع معناه الصلاة فلذا لم يقيده، وهي جامعة لأنواع الأعمال الظاهرة والباطنة، وهي عمادها، فذكرها دال على ما عداها.
ولما كان للبدن حظ في الراحة قال مستثنيا من الليل: {إلا قليلا} أي من كل ليلة، ونودي هذا النداءلأنه صلى الله عليه وسلم: «لما جاءه الوحي بغار حراء رجع إلى خديجة زوجته رضي الله تعالى عنها يرجف فؤاده فقال: زملوني زملوني! لقد خشيت على نفسي».
فسألته رضي الله عنها عن حاله، فلما قص عليها أمره- قال: «خشيت على نفسي» يعني أن يكون هذا مبادئ شعر أو كهانة، وكل ذلك من الشياطين وأن يكون الذي ظهر له بالوحي ليس بملك، وكان صلى الله عليه وسلم يبغض الشعر والكهانة غاية البغضة، فقالت له وكانت وزيرة صدق: «كلا والله! لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكل وتعين على نوائب الحق» ونحو هذا من المقال الذي يثبت، وفائدة التزمل أن الشجاع الكامل إذا دهمه أمر هو فوق قواه ففرق أمره فرجع إلى نفسه، وقصر بصره وبصيرته على حسه، اجتمعت قواه إليه فقويت جبلته الصالحة على تلك العوارض التخييلية فهزمتها فرجع إلى أمر الجبلة العلية، وزال ما عرض من العلة البدنية.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما كان ذكر إسلام الجن قد أحرز غاية انتهى مرماها وتم مقصدها ومبناها، وهي الإعلام باستجابة هؤلاء وحرمان من كان أولى بالاستجابة، وأقرب في ظاهر الأمر إلى الإنابة، بعد تقدم وعيدهم وشديد تهديدهم، صرف الكلام إلى أمره صلى الله عليه وسلم بما يلزمه من وظائف عبادته وما يلزمه في أذكاره من ليله ونهاره، مفتتحا ذلك بأجمل مكالمة وألطف مخاطبة {يا أيها المزمل} [المزمل: 1] وكان ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم كما ورد {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} [فاطر: 8] إلى آخره، وليحصل منه الاكتراث بعناد من قدم عناده وكثرة لججه، وأتبع ذلك بما يشهد لهذا الغرض ويعضده وهو قوله تعالى: {فاصبر صبرا جميلا} [المعارج: 5] {واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا} [المزمل: 10- 11] وهذا عين الوارد في قوله تعالى: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} [فاطر: 8] وفي قوله: {نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار} [ق: 45] ثم قال: {إن لدينا أنكالا} [المزمل: 12] فذكر ما أعد لهم، وإذا تأملت هذه الآي وجدتها قاطعة بما قدمناه، وبان لك التحام ما ذكره، ثم رجع الكلام إلى التلطف به عليه الصلاة والسلام وبأصحابه- رضي الله عنهم أجمعين- وأجزل جزاءهم مع وقوع التقصير ممن يصح منه تعظيم المعبود الحق جل جلاله {علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} [المزمل: 20] ثم ختم السورة بالاستغفار من كل ما تقدم من عناد الجاحدين المقدم ذكرهم فيما قبل من السور إلى ما لا يفي العباد المستجيبون به مما أشار إليه قوله تعالى: {علم أن لن تحصوه} [المزمل: 20] انتهى.
ولما كان الليل اسما لما بين غروب الشمس وطلوع الفجر، وكان قيامه في غاية المشقة، حمل سبحانه من ثقل ذلك، فقال مبينا لمراده بما حط عليه الكلام بعد الاستثناء، ومبدلا من جملة المستثنى والمستثنى منه: {نصفه} أي الليل، فعلم أن المراد بالقليل المستثنى النصف، وسماه قليلا بالنسبة إلى جميع الليل، وبالنسبة إلى النصف الذي وقع إحياؤه، لأن ما يلي بالعمل أكثر مما لا عمل فيه، ويجوز أن يكون {نصفه} بدلا من الليل، فيكون كأنه قيل: قم نصف الليل إلا قليلا وهو السدس أو انقص منه إلى الربع، وجاءت العبارة هكذا لتفيد أن من قام ثلث الليل بل ربعه فما فوقه كان محييا لليل كله.
ولما كانت الهمم مختلفة بالنسبة إلى الأشخاص وبالنسبة إلى الأوقات قال: {أو انقص منه} أي هذا النصف الذي أمرت بقيامه، أو من النصف المستثنى منه القليل على الوجه الثاني وهو الثلث {قليلا} فلا تقمه حتى لو أحييت ثلث الليل على الوجه الأول أو ربعه على الوجه الثاني كنت محييا له كله في فضل الله بالتضعيف {أو زد عليه} أي على النصف قليلا كالسدس مثلا، فيكون الذي تقومه الثلثين مثلا، وعلى كل تقدير من هذه التقادير يصادف القيام- وهو لا يكون إلا بعد النوم: الوقت الذي يباركه الله بالتجلي فيه فإنه صح أنه ينزل سبحانه عن أن يشبه ذاته شيئا أو نزوله نزول غيره بل هو كناية عن فتح باب السماء الذي هو كناية عن وقت استجابة الدعاء- حين يبقى ثلث الليل- وفي رواية: حين يبقى شطر الليل الآخر- إلى سماء الدنيا فيقول: هل من سائل فأعطيه، هل من تائب فأتوب عليه، هل من كذا هل من كذا حتى يطلع الفجر.
وكان هذا القيام في أول الإسلام فرضا عليهم على التخيير بين هذه المقادير الثلاثة فكانوا يشقون على أنفسهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب، وكذا بعض أصحابه رضي الله تعالى عنهم واشتد ذلك عليهم حتى انتفخت أقدامهم، وكان هذا قبل فريضة الخمس، فنزل آخرها بالتخفيف بعد سنة {علم أن لن تحصوه} [المزمل: 20] الآيات، فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة.
ولما أمر بالقيام وقدر وقته وعينه، أمر بهيئة التلاوة على وجه عام للنهار معلم بأن القيام بالصلاة التي روحها القرآن فقال: {ورتل القرآن} أي اقرأه على تؤدة وبين حروفه بحيث يتمكن السامع من عدها وحتى يكون المتلو شبيها بالثغر المرتل وهو المفلج المشبه بنور الأقحوان، فإن ذلك موجب لتدبره فتكشف له مهماته وينجلي عليه أسراره وخفياته، قال ابن مسعود رضى الله عنه: ولا تنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هذ الشعر، ولكن قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة.
روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قام حتى أصبح بآية، والآية {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}» [المائدة: 118] ولما أعلم سبحانه بالترتيل أعلم بشرفه بالتأكيد بالمصدر فقال: {ترتيلا}.
ولما كان المراد منه صلى الله عليه وسلم الثبات للنبوة ومن أمته الثبات في الاقتداء به في العمل والأمر والنهي، وكان ذلك في غاية الصعوبة، وكان الإنسان عاجزا إلا بإعانة مولاه، وكان العون النافع إنما يكون لمن صفت نفسه عن الأكدار وأشرقت بالأنوار، وكان ذلك إنما يكون بالاجتهاد في خدمته سبحانه، علل هذا الأمر بقوله مبينا للقرآن الذي أمر بقراءته ما هو وما وصفه، معلما أن التهجد يعد للنفس من القوى ما به يعالج المشقات، مؤكدا لأن الإتيان بما هو خارج عن جميع أشكال الكلام لا يكاد يصدق: {إنا} أي بما لنا من العظمة {سنلقي} أي قريبا بوعد لا خلف فيه فتهيأ لذلك بما يحق له.
ولما كان المقام لبيان الصعوبة، عبر بأداة الاستعلاء فقال: {عليك} وأشار إلى اليسر مع ذلك إشارة إلى {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} [القمر: 17] بالتعبير بما تدور مادته على اليسر والخفة فقال: {قولا} يعني القرآن {ثقيلا} أي لما فيه من التكاليف الشاقة من جهة حملها وتحميلها للمدعوين لأنها تضاد الطبع وتخالف النفس، ومن جهة رزانة لفظه لامتلائه بالمعاني مع جلالة معناه وتصاعده في خفاء فلا يفهمه المتأمل ويستخرج ما فيه من الجواهر إلا بمزيد فكر وتصفية سر وتجريد نظر، فهو ثقيل على الموافق من جميع هذه الوجوه وغيرها، وعلى المخالف من جهة أنه لا يقدر على رده ولا يتمكن من طعن فيه بوجه مع أنه ثقيل في الميزان وعند تلقيه وله وزن وخطر وقدر عظيم، روي في الصحيح: «إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه الوحي يفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشاتي الشديد البرد وكان- إذا أنزل عليه الوحي وهو راكب على ناقته وضعت جرانها فلا تكاد تتحرك حتى يسري عنه» قال القشيري: وروي عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن سورة الأنعام نزلت عليه جملة واحدة وهو راكب فبركت ناقته من ثقل القرآن وهيبته، وهو مع ثقله على الأركان خفيف على اللسان سهل التلاوة والحفظ على الإنسان. اهـ.